TodayPic

مجلة اخبارية

اخبار عامة

ديفيد ميلر.. بروفيسور الجامعة الذي واجه الصهيونية في بريطانيا وانتصر | الموسوعة


“الصهيونية ليست حركة يمكن التفاوض معها، بل حركة يجب هزيمتها”

يقولها الرجل الأبيض، الأشقر الشعر، بصيغة توحي بأنها مقولة جاءت نتيجة لتجربة معملية جرت في أحد المختبرات، وهو ما حدث فعلًا، إن أمكن اعتبار صراعه مع الحركة الصهيونية وأذرعها في بلده، إنجلترا، تجربة معملية.

عندما تسمعه يقولها، ينتابك أولًا إحساس يمزج بين اللذة والألم حينما يتولى الرجل الأبيض الغربي ما يجب أن يكون على رأس أولوياتنا ويتحدث بلساننا، نحن العرب. إحساس “لذيذ” لأنه يمنحنا الاعتراف الدولي الذي نبحث عنه ويمنحنا شعورا بأننا لم نندثر ونُنس بعد، ومؤلم لأنه يذكرنا بأننا ما زلنا بحاجة إلى هذا الاعتراف. لكن الفارق عند ميلر أنه يلحق عبارته بأخرى تحوله من مجرد غربي أبيض أشقر نبحث عن اعترافه بنا إلى شخص يقف بجانبنا في المعركة:

“الحركة الصهيونية هي حركة إبادية قصوى، والطريقة الوحيدة الفعالة لمواجهتها هي المعاداة القصوى”

 

ميليكوفسكي

تبدأ قصة ميلر عندما قررت جامعة برِستول تعيينه ضمن طاقمها أستاذًا لعلم الاجتماع السياسي. أساتذة الجامعة في إنجلترا، وفي عدد من الدول الغربية، يتمتعون باستقلالية تصل إلى درجة الحصانة أحيانًا في تحديد مناهجهم واختباراتهم ومواضيع محاضراتهم، وميلر، بحكم دراسته وتاريخه الأكاديمي، كان متخصصًا في حملات الاحتلال الاستيطاني التاريخية وآلياتها الاجتماعية، أو ما يعرف في الغرب باسم Settler-Colonialism””؛ بدءًا من احتلال الإنجليز لأيرلندا الشمالية، ومرورا باحتلال الهولنديين والإنجليز لجنوب أفريقيا، والفرنسيين للجزائر، ووصولا لليهود الأوروبيين واحتلالهم لفلسطين.

المعلومة المهمة الأولى هنا هي حقيقة أن لفظة “Settler” الإنجليزية ومشتقاتها لا تمنح ذات الانطباع الإجرامي للفظة “استيطان” العربية رغم الاتفاق الجمعي بترادفهما؛ فالأولى تُستخدم عادة في الكثير من المواقف الإيجابية، مثل قرار بالزواج والإنجاب وتكوين عائلة، أو القبول بترضية أو تسوية في نزاع قضائي ما، أو الاستقرار وإنشاء مجتمع جديد.

كل ما سبق يوصف بذات اللفظة التي ترادف الاستيطان الذي بُني بالأساس على التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ولعل هذا مقصود في ذاته؛ لفظة “Settle”، مثل أغلب الألفاظ في قاموس الاحتلال عمومًا والاستيطان خصوصًا، لا تعترف بوجود الطرف الآخر ابتداءً، ثم تبني على ذلك متظاهرة بـ”البراءة” لاحقًا، وكأن المستوطنين مجموعة من المُخلّصين الذين أُرسلوا ليعمّروا بقعة غير مأهولة من الأرض، ولسبب ما، يحاول “الإرهابيون” منعهم.

من منطلق دراسته للمسألة بكل تفاصيلها ومفرداتها، بدأ ميلر عمله مباشرة بصورة طبيعية، ولم يمر الكثير من الوقت حتى وقع الصدام الحتمي بعد محاضرة ألقاها في فبراير/شباط 2019 عن الإسلاموفوبيا أو الخوف غير المنطقي من الإسلام والمسلمين، وفي تلك المحاضرة، عدّد ميلر خمسة أسباب للمسألة، كان أحدها هو الحركة الصهيونية ذاتها.

في الواقع، كانت الحركة الصهيونية أهم هذه الأسباب على الإطلاق؛ عندما عكف ميلر وفريقه على دراسة الإسلاموفوبيا في 2010، بعد عقد كامل من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، اكتشفوا أن مصطلح “الإرهاب الإسلامي” صُكّ لأول مرة في مؤتمر بالعاصمة الأميركية واشنطن عام 1984، قبل أن يصبح متداولًا بعقدين كاملين تقريبًا.

بمزيد من البحث، علم ميلر وفريقه أن هذا المؤتمر تحديدًا كان ممولًا من 13 جمعية ومؤسسة، 12 منها منتمية للحركة الصهيونية، ولن تكون مفاجأة أن تعلم أن الداعي إلى هذا المؤتمر ابتداءً كان صهيونيًّا من عائلة بولندية يدعى بنيامين ميليكوفسكي، كان يشق طريقه على الساحة السياسية الدولية حينها، قبل أن يُعرف لاحقًا باسم بنيامين نتَنياهو.

كانت نظرية ميلر بسيطة؛ فالصهيونية لم تكن مجرد حركة تؤيد إقامة دولة لليهود، بل بما أن هذه الدولة كانت ستُقام على أرض فلسطين التاريخية التي يسكنها العرب والمسلمون، فقد كان على الصهيونية أن تعادي العرب والمسلمين أيضًا، وهذا العداء كان ضروريًّا لبقائها وتوسعها لاحقًا، وبالتبعية، كان عليها إقناع حلفائها بالشيء ذاته، خاصة أنها اختارت اللحظة المناسبة لبدء دعايتها للأمر، حينما أفل نجم الاتحاد السوفيتي وبدأ انهياره العملي، وكان حلفاؤها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، بحاجة إلى عدو جديد يملأ فراغه، كما يقول ميلر”.

توالت مؤتمرات بدعوات من ميليكوفسكي وغيره، تروج لأفكار محددة هدفها حماية إسرائيل عبر استعداء الغرب للعرب والمسلمين، ولم يكن هدفها السياسيين الذين يسهل إغراؤهم وترغيبهم وترهيبهم، بل الجماهير ذاتها، التي ستجعل عمل السياسيين أسهل لاحقًا.

لم تكن دول الاستعمار الغربية واقعة في غرام العرب والمسلمين قبل هذا المؤتمر عام 1984، بل لم تكن سياساتها منصفة اتجاههم بطبيعة الحال، ومع ذلك لم يكن الغرب يمتلك السياق الثقافي المعاصر لكراهيتهم، وتلك كانت مهمة ميليكوفسكي وأعوانه؛ الترويج لنوع جديد من “الإرهاب” لاستبدال “الإرهاب” الشيوعي، نوع خاص بالإسلام والمسلمين لأنه إسلام “متخلف” ولأنهم مسلمون “متخلفون” يعيشون في مجتمع رعوي بدوي لا يعرف الحضارة، وهذا -كحكم عام مُسبق- يجعلهم أكثر قابلية للتطرف ببساطة، رغم أن التاريخ لا يعرف مجتمعًا بدويًّا رعويًّا واحدًا محا مدينتين كاملتين من الوجود في بضع ساعات دون أن يجرح جنديًّا واحدًا من جيشه مثلما فعلت الولايات المتحدة في هيروشيما وناغازاكي.

هذه الدرجة من الوحشية والاحتقار للحياة الإنسانية يصعب على أي “مجتمع بدوي رعوي متخلف” كما يصفونه، تخيلها، لأن مجتمعًا كهذا، بطبيعته، سيتخيل أن فعلة كتلك لا بد أن يكون لها ثمن يدفعه، وتضحية يؤديها، ومقاومة ورد سيواجههما، وتساؤلات وحيرة وندم سيتعامل معهما لاحقًا.

أما إفناء البشر بأعداد هائلة من قمرة طائرة، دون فرصة لرؤية وجوههم ودمائهم وتوسلاتهم، دون مشاهدة الانفجار وهو يمزق أوصالهم ويحرق جلودهم ويذيب اللحم عن أجسامهم، دون شكوك أو فضول، فهو محاولة لنزع حتى الكلفة الإنسانية عن عملية القتل، محاولة لتسطيح الحدث وتحويل البشر إلى أرقام، محاولة لتحويلها إلى ضغطة زر عنصرية لا تستطيع مواجهة ضحاياها، لتحويلها إلى عملية حسابية صماء تُقاس فيها قيمة البشر بتكلفة القنبلة التي ستبيدهم.

لو كان هناك “نوع خاص من الإرهاب” فعلًا فهذا هو؛ الإرهاب المُصنّع المُتقدم الذي يحصن نفسه من الذنب والشك بنوافذ زجاجية وبضعة كيلومترات بينه وبين ضحاياه، الذي يحصد أرواح ما بين 129 و229 ألف إنسان من السماء بالبرق والنار كالآلهة الميثولوجية.

بالطبع كانت تلك المرحة الأولى من دعاية الحركة الصهيونية، التي لا نتخيل أنها كانت صعبة بالنظر إلى قدرات أصحاب تلك الدعاية على الاجتزاء والتلفيق والتدليس. وبمتابعة دورية لمنصات الإعلام الغربي ستدرك أي شوط قطعوه من حينها؛ الآن، لفظة “جهاد” ذاتها أصبحت مرادفة في المخيال الغربي للإرهاب وقتل المدنيين.

قبل تلك اللحظة، أي 1984، ربما لم يكن الغرب يهتم إلى هذه الدرجة، وهي شهادة لإصرار وتصميم وتفاني الصهيونية الاستثنائي في جعل قضيتهم محور حياة الغربيين وقدس أقداسهم، رغم أن تحرير فلسطين أو عدمه لن يغير شيئًا في عالم الغربيين أنفسهم على المستوى الشعبي. هذه هي الحقيقة المحورية المنسية التي لن يدركها الغربيون إلا عندما تتحرر فلسطين فعلًا، وستكون تلك لحظة من أعجب ما قدمت البشرية لنفسها.

باختصار؛ ميلر وفريقه وجدوا رابطًا مباشرًا بين الإسلاموفوبيا والحركة الصهيونية، ربطًا يكشف جزءًا من وجه الصهيونية الدميم كما يراه ميلر، والأهم حاضرها الآني الذي يقوده ذات الميليكوفسكي، ومن حينها، عكف الرجل على دراسة الصهيونية مدفوعًا بشغفه بالفهم.

 

حرب الأعوام الستة

بمجرد تسريب الدقائق الأربع التي تعرض فيها ميلر للمسألة خلال محاضرته، بدأ هدير الآلة الصهيونية من خلال مجموعات الضغط والتأثير التي تُعرف إعلاميًّا باسم “لوبي” أو “لوبيّات” وهي تنويع على لفظة “Lobby” الإنجليزية، أو القاعة، نسبة للمكان الذي كانت تجري فيه هذه المحادثات عادة قبل اختراع الهواتف الذكية، وهي مسألة كتب عنها عدد من الخبراء السياسيين الأميركيين، على رأسهم جون ميرشايمر وستيفن وولت.

هنا يتجلى واحد من أهم مظاهر “عبقرية الصهيونية” في هذه المسألة، وهو التخطيط على مراحل منفردة متتالية تتصاعد في القوة، ارتكازًا على حقيقة كونية مُثبتة بالتجربة، وهي أن الإنسان يستطيع تقبل أي وضع، مهما كانت درجة اختلاله وجنونه، ما دام قد وقع بالتدريج. للمصدر؛ انظر إلى العالم.

في البداية تتحرك منظمات الضغط التي تحمل أسماءً عمومية “بريئة” تتظاهر بالعمل لأجل الصالح العام؛ تلقت الجامعة خطابًا من مؤسسة تُدعى “ثقة أمن المجتمع” أو “Community Security Trust”، وهي أحد أشهر المنظمات الصهيونية في بريطانيا، تدعي فيه أن اثنين من طلاب جامعة برِستول قدما شكاوى تتصل بمنهج البروفيسور ميلر التعليمي، وبالطبع، طلبا حجب هويتهما.

فشلت الخطوة الأولى لسبب قانوني بسيط هو أن لائحة الجامعة لا تنص على آلية محددة للتعامل مع الشكاوى المقدمة من طرف ثالث مستقل عن الجامعة ومستقل عن أطراف “الصراع”، فانتقلت الآلة الصهيونية إلى الخطوة التالية التي تعلن فيها عن هويتها صراحة وبلا مواربة، عندما دخلت منظمة “المجتمع اليهودي في برِستول” (The Bristol Jsoc) على الخط من خلال رئيسها، الذي كان أحد خريجي الجامعة بدوره، ورئيسًا سابقًا لمجموعة “اتحاد الطلبة اليهود في برِستول” (Union of Jewish Students UJS)، ببساطة لأن كل ما سبق ينفي عنه صفة الطرف الثالث.

إذا كنت قد شعرت بالارتباك والحيرة والمحاصرة من أسماء مجموعات الضغط وتنوعها فهذا دليل آخر على “عبقرية الآلة الصهيونية”، طبعًا إن جاز لما يسمّيه ميلر “الإرهاب الفكري” أن يوصف بالعبقرية.

الخطوة التالية طبقًا للمنهجية الصهيونية هي “كذبة مفرطة الوقاحة”، وهو ما كتبه رئيس المجموعة السالفة الذكر في خطابه للجامعة:

“نحن منزعجون جدًّا من حقيقة أن مُحاضرًا يستطيع استغلال منصبه وتأثيره بالجامعة المرموقة لنشر نظريات مؤامرة وخرافات لا يملك دليلا واحدا عليها”

ما حدث هنا هو التالي: هناك رجل اكتشف أن أول من دعا وروج للإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، ونشر دعاية عما سمّاه “الإرهاب الإسلامي” وقتها، قبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول بعقدين من الزمن تقريبًا، هو رئيس وزراء حكومة الاحتلال الحالي، الذي يقول علنًا إنه صهيوني ويستخدم ذات اللفظة -الإرهاب الإسلامي- لوصف المقاومة المسلحة للاحتلال الذي يقوده، وأن من موّل هذه المؤتمرات آنذاك منظمات تقول علنًا إنها صهيونية، فاستنتج أن أحد أسباب انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب هو الحركة الصهيونية.

أما الرد الذي جاء فهو: نظريات مؤامرة وخرافات لا يملك دليلا واحدا عليها.

الرد على الرد: تمسكت الجامعة بتقاليدها في حرية الرأي وتداول الأفكار، وأخضعت المحاضرة للمراجعة للتأكد من خلوها من التعليقات “المعادية للسامية” على حد وصف الشاكين، الذين استخرجوا “تعليقات مشابهة” من محاضراته السابقة قبل انضمامه إلى الجامعة.

في النهاية، رفضت الجامعة الشكوى مستندة على حقيقة محورية منسية أخرى؛ نحن لا نعلم ما هي “معاداة السامية” بالضبط.

طبعًا هذا له سبب آخر بسيط وواضح؛ المجموعات اليهودية والصهيونية ذاتها ليست متفقة على تعريف واضح قاطع لمعاداة السامية. في الواقع، هذه المجموعات ستجتمع في الولايات المتحدة بعد عامين من محاضرة ميلر لتختلف حول وجوب تبنيها لتعريف الـ”IHRA” لمعادة السامية، وهو تعريف “غير ملزم”، بأداء الفنان المصري محمد صبحي في مسرحيته “تخاريف”.

الـ”IHRA” منظمة صهيونية تضم أعضاء من حكومة الاحتلال الحالية والسابقة والتي سبقتهما. وأول ما تلاحظه في تعريف الاتحاد لمعاداة السامية، وبغض النظر عن موضوعيته أو عدمها، هو أنه يناقض ذاته، والأهم، والمتوقَع كذلك، أنه يمنح حكومة الاحتلال حصانة مطلقة.

طبقًا للـ”IHRA”  فمن أمثلة معاداة السامية “أن تروج لنظريات المؤامرة القائلة بأن اليهود يتحكمون في اقتصاد أو إعلام أو سياسة العالم”، أو “أن تعقد المقارنات بين سياسات دولة إسرائيل وسياسات الحزب النازي الألماني”، أو “أن تدعي أن وجود دولة إسرائيل عنصري بحد ذاته”، أو “أن تطالب دولة إسرائيل بسلوك غير مطلوب وغير متوقع من أي دولة ديمقراطية أخرى”.

بعبارة أخرى يمكن للصهيونية أن تتحكم في اقتصاد وإعلام وسياسة العالم فعلًا، أو أن يبالغوا كما شاؤوا في استحضار تاريخهم، ويمكن لوجود دولة إسرائيل أن يكون عنصريًّا بحد ذاته، وبشكل عام، يمكنها أن تفعل أي شيء سبقتها له “دول ديمقراطية أخرى”، كأن تغزو العراق وتقتل مليوني إنسان مثل إنجلترا والولايات المتحدة، أو أن تلقي بقنبلتين ذريتين على مدينتين من اختيارها، أو أن تخطط لانقلابات وحروب أهلية في دول لا يخدم حكامها “مصالحها”، أو تبيد السكان الأصليين مثل أستراليا، أو تنشئ نظام فصل عنصري في فلسطين، ما دامت كل من إنجلترا والولايات المتحدة وأستراليا وهولندا وبلجيكا تُعتبر “دولًا ديمقراطية أخرى”، وأي شكوى أو انتقاد لأي مما سبق تجعلك تلقائيًّا “معاديًا للسامية”.

في الواقع، تُستخدم هذه الحُجة تحديدًا على نطاق واسع في البرامج الحوارية الغربية، وهي التفسير الوحيد لشعور سلطة الاحتلال الدائم بالاضطهاد رغم تورطها فيما اعتبرته محكمة العدل الدولية “حالة إبادة جماعية مُحتملة”؛ إنها تشعر بحدة النقد وزيادة الضغط الدولي رغم أنها لم تزد على ما فعله “قادة العالم الحر” من قبل.

تضامن ودعم للأستاذ ميلر الذي تم إيقافه من قبل جامعة بريستول بسبب مزاعم معاداة السامية 2021 (شترستوك)

خلافات عائلية

رغم ذلك، يضم تعريف الـ”IHRA” وصفًا غاية في الأهمية والموضوعية لمعاداة السامية، وهو “تحميل اليهود كجماعة مسؤولية أفعال دولة إسرائيل”. عبارة منطقية أخيرًا؛ إذ كيف يتحمل أمثال إيلان بابيه ونورمان فنكلستين وآفي شلايم وكيتي هالبر وزاك فوستر مسؤولية تصرفات أمثال بنيامين نتَنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإتمار بن غفير؟ لا يزال هناك أمل رغم كل شيء.

كان لا يزال هناك أمل فعلًا حتى تحدث ويليام داروف، رئيس المؤتمر الذي نُوقشت فيه المسألة عام 2021، معللًا رغبته في تبني تعريف الـ”IHRA”:

“من المهم اعتماد تعريف الـ”IHRA” لأن معاداة السامية تأخذ شكلًا جديدًا مقبولًا في بعض الدوائر، وهو استبدال انتقاد اليهود بانتقاد إسرائيل، فبدلًا من التحدث عن اليهود الدميمين المتسخين، يتحدثون عن إسرائيل الدميمة المتسخة، وبدلًا من الحديث عن معاداة اليهود، يتحدثون عن معاداة الصهيونية”.

عدنا لنقطة الصفر إذن، ببساطة لأننا نتحدث عن أناس يبحثون عن حصانة مطلقة؛ فمن جهة، لا تمييز بين إسرائيل واليهود والصهيونية، لأن أي انتقاد للأولى يعني انتقاد ما بعدها من وجهة نظر داروف، وفي ذات الوقت، لا يمكنك تحميل ذات اليهود والصهاينة مسؤولية أفعال دولة إسرائيل، طبقًا لتعريف “IHRA” الذي يطلب داروف نفسه من الجميع تبنيه. هل تشعر بالضياع والارتباك والحيرة؟ هذا هو المطلوب بالضبط.

حاول تخيل هذا العالم، أو لا حاجة إلى الخيال لأنه واقع بالفعل، ثم صدق أو لا تصدق؛ كانت هذه هي نقطة اعتراض المجموعات الصهيونية ذاتها على التعريف؛ “دائرة العاملين” أو (The Workers’ Circle)، المجموعة الصهيونية التي يبلغ عمرها 121 عامًا، والتي تعتبر نفسها “مناصرة لإسرائيل من الرأس إلى القدم”، وفي ذات الوقت تزعم الدفاع عن العدالة الاجتماعية بطريقة ما، ترى أن انتقاد إسرائيل لا يجعل أعضاءها معادين للسامية، لأنها “كانت ولا تزال تنتقد إسرائيل بعنف، حرصًا منها على مستقبلها”.

المهم أن هذا هو التعريف الذي أرادت مجموعات الضغط الصهيونية من الجامعة تبنيه، ثم تطبيقه على حالة ميلر بأثر رجعي، وهذه المرة، تحرك المزيد من مجموعات الضغط للتأثير في قرار الجامعة، التي عقدت لجنة أخرى خلصت إلى أن “المحاضرة بشكل خاص وتعليقات البروفيسور ميلر بشكل عام خلت من التعليقات المعادية للسامية أو الكراهية اتجاه اليهود كمجموعة”.

خسرت الصهيونية المعركة الأولى ولكنها عزمت ألا تخسر الحرب، وسنحت فرصتها الثانية لإقصاء ميلر بعد عامين، عندما صرح في مؤتمر أقيم افتراضيًّا على الإنترنت بأن “الطلبة المنتمين لجماعات الضغط الصهيونية يعملون وفق الأجندة الإسرائيلية وينفذون مخططاتها”.

طبعًا يمكن اعتبارها مقولة منطقية تمامًا لو لم يكن هناك تمييز بين جماعة اليهود ودولة إسرائيل كما يعتقد داروف، ولكن بطريقة ما، أثارت هذه العبارات اتهامات جديدة لميلر بمعاداة السامية وكراهية اليهود.

تلك المرة أيضا، لم تجد لجنة المراجعة من الجامعة أي دلائل جديدة تعضد هذه الاتهامات، ولكنها اعتبرت أن تصريحات ميلر تخالف لائحة الجامعة على أساس أنها “معادية أو مؤذية للطلاب أو مجموعة منهم”، وهو ما يرقى إلى وصف تلك التصريحات بأنها “سوء تصرف فظيع” (Gross Misconduct) طبقًا للائحة الداخلية، ومن ثم، اتخذت قرارها بفصل الرجل من وظيفته.

ما تلا ذلك هو قضية في محكمة العمل استغرقت عامين كاملين حتى أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأول ما يلفت الانتباه إلى القضية هو الحجة التي ارتكز عليها ادعاء ميلر، وهي أن “المعتقدات المعادية للصهيونية هي معتقدات فكرية وفلسفية تتمتع بالحماية تحت مظلة قانون المساواة الإنجليزي الصادر عام 2010، وتحديدًا، الاعتقاد بأن الصهيونية، بطبيعتها، عنصرية وإمبريالية واستعمارية”.

 

قدس الأقداس

كانت المخاطرة كبيرة؛ إذ قرر ميلر أن يفوز بكل شيء، أو يتحول إلى مجرد أحمق آخر يحكي داروف وأمثاله قصته على العشاء وهم يضحكون، وفي ذلك إخلاص لمعتقده الذي لا يمل من تكراره؛ الحركة الصهيونية هي العدو الأول للسلام العالمي، ولن نصبح في مأمن حتى تتوقف مجموعاتها وأذرعها عن العمل.

الحصول على حكم بناءً على تلك الحُجة يضرب تعريف الـ”IHRA” لمعاداة السامية في مقتل، ويعني أن فصل ميلر كان تعسفيًّا وشابه تمييز سلبي بسبب معتقداته المعادية للصهيونية، إضافة إلى كونه انتصارًا معنويًّا وماديًّا، والأهم، قانونيًّا، لكل هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم بسبب تصريحهم بآراء ومواقف معادية للصهيونية وسلطة الاحتلال وقمع وإبادة وتهجير الفلسطينيين، تحت ضغط وترهيب جماعات الضغط الصهيونية.

لو كان هناك تعريف لـ”المعاداة القصوى” التي يجب أن تواجه بها الصهيونية فهو هذا؛ ميلر اختار الانتصار التام الشامل على الفكرة ذاتها، وسيصبح ذلك انتصارًا حتى لو لم يخرج الحكم لصالحه، بمجرد طرح الفكرة على خيال المجتمع الغربي، للتفكير والتأمل وزرع التساؤل في عقول الغربيين: ماذا لو كانت الصهيونية كأي فكرة أخرى؟

لا بد أن تلك هي الأسئلة التي دارت في رأس القاضي روهان بيراني قبل أن يصدر حكمه: “معتقدات ميلر مؤهلة لتكون معتقدات فلسفية وخصائص شخصية محمية تحت مظلة قانون المساواة الإنجليزي لعام 2010، وبالتبعية، هي محمية في بيئات العمل المختلفة ولا يجوز التمييز ضدها”.

انتصار تاريخي. والأهم، أنه يؤسس للمبدأ كسابقة في تاريخ محاكم العمل الإنجليزية، ويمنح كل ضحايا التمييز الصهيوني صوتًا قويًّا ونَفَسًا جديدًا، يشجعهم على التقدم بمظالمهم لمحاكم العمل استنادًا على ذات الحكم كسابقة قانونية.

هذه الجذرية الأصولية المتجاوزة للحُجج والمبررات والمتاهات والمغالطات المنطقية الصهيونية أثارت جنون الكثيرين طبعًا؛ أولًا لأنها غير مسبوقة، وثانيًا لأنها تمثل تهديدًا وجوديًّا حقيقيًّا للفكرة ذاتها، فكرة الحصانة المطلقة وأسلحة الابتزاز العاطفي والتاريخي التي أنفقت الصهيونية عقودًا ومئات المليارات في بناء أدواتها، لتصبح الصهيونية والسامية فكرة فوق الأفكار، تعبر عن بشر فوق البشر.

هدرت الآلة الصهيونية الإعلامية مرة أخرى بعنف أشد، وبتنسيق واسع وباهر كالعادة، لتشويه الرجل واغتياله معنويًّا ووظيفيًّا، ولكنها، أثناء هديرها، منحت ميلر وأمثاله أملًا قلّما تمنحه لأحد.

أتى الهدير كسولًا مُدلّلًا إن جاز التعبير؛ جولة طويلة متأنية في التقارير ومقالات الرأي التي تبنت الرد الصهيوني على حكم بيراني ستكشف لك حالة الإنكار والعجز التي عاشتها الآلة الصهيونية في تلك اللحظة.

الدليل؟ سنخبرك بمعلومة يمكنك التأكد منها بنفسك؛ من بين كل هذه المقالات والتقارير، من ديفيد هِرش في “ذا جويش كرونيكل”، مرورًا بديفيد فِلدمان وكنعان لِبشِتز في هآرتس، وحتى رتشِل أودونوهيو في “أونست ريبورتِنغ”، لم تُناقَش حُجة ميلر مرة واحدة، لم يتعرض أي منهم لفكرته بالنقد والتمحيص والتدقيق، لم يحاول أي منهم مخاطبة المتشككين أو المتسائلين، وكل ما حصلنا عليه هو أشبه بـ”كورال جماعي” يرتكب ذات الخلط الذي يتحدث عنه ميلر بين اليهود وإسرائيل، وكأنهم يؤكدون نظريته، ويرددون “مُعادٍ للسامية” بلا توقف، وكأن هذا كافٍ بحد ذاته لإسكات أي حُجّة، مهما كانت موضوعيتها وقدرتها على مخاطبة وعي الناس.

هذا الكسل والاستسهال والعجز عن المواجهة والتفكيك والنقد الفعلي، يُبطن صدمة عنيفة من الفشل الذي لم يكن متخيلًا قبل تلك اللحظة، وتحديدًا، في إنجلترا؛ الدولة التي أفنت الحركة الصهيونية أعمارهم في استمالتها رفقة الولايات المتحدة وألمانيا، والتي نجحوا في “تهذيب” و”تشذيب” و”اختراق” معارضَتها، حتى صار زعيمها الحالي، كير ستارمر، يزايد على رئيس الوزراء ريتشي سوناك في محاباة سلطة الاحتلال.

لو كان هناك أمر واحد يُنبئ بسقوط الصهيونية كما يتوقع المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، فهو حقيقة أن الجيل الحالي من الصهاينة ألِف التدليل الزائد، وألِف المحاباة والانحياز والانصياع، وصار يظن أن الوقاحة وحدها تكفي كما يقول بابيه، وأن قضيته لم تعد بحاجة إلى الإقناع بجدواها ومشروعيتها، ولم يعد يملك سوى إساءة استغلال مكاسبه السابقة، واستهلاك المصطلحات والفزّاعات حتى تفقد معناها وقيمتها.

في ذلك درس بديهي قديم جديد لا يُمَلّ من تكراره أبدًا؛ لا تواجه عدوك بأدواته أبدًا، لأنها أدواته ببساطة، ولأنها مُعدّة مسبقًا لتمنحه الانتصار في كل مرة، ولأن مواجهة واحدة حقيقية ناجحة بقواعد متكافئة، حتى لو أتت بعد مئة محاولة فاشلة، أفضل وأكثر فاعلية من ألف مواجهة مزيفة بقواعد عدوك، لن تنتصر في أي منها.

انتصار ميلر التاريخي لم يقضِ على الصهيونية طبعًا، ولم يحرر شبرًا من الأرض عمليًّا، ولكنه كشف ثغرة في درعها المنيع، ثغرة قد تؤدي إلى سقوط الفكرة ذاتها في الوعي الجمعي، ليس بسبب شجاعة ميلر وحسب، بل لصدقه كذلك، وهو الأهم؛ ما يقوله ميلر يجد صدى عند الناس واقعًا يعايشونه، وكل ما يحتاجون إليه هو صدمة تفيقهم، ليدركوا من خلالها أن لا مجموعة من البشر، مهما كانت، تستحق حصانة من المحاسبة والمسؤولية، لا مجموعة من البشر تستحق مكانة الآلهة، ومهما كان تاريخها والمظالم التي تعرضت لها من قبل. في الواقع، هناك أكثر من 200 مدرس وأكاديمي في إنجلترا والولايات المتحدة فقط دعموا ميلر في قضيته ضد برِستول بمجرد ذيوع صيتها.



Source link

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *