TodayPic

مجلة اخبارية

اخبار عامة

الاقتصاد وحرب غزة.. العمّال يفرّون من الأرض المحتلة! | آراء


يدور الاقتصاد في فلك السياسة سلبًا وإيجابًا، لذا فحرب غزة الأخيرة لها تداعياتها على الاقتصاد الإسرائيلي والاقتصاد الفلسطيني والاقتصادات المحيطة والاقتصاد الدولي.

ومن المدهش أنّ هناك شبه صمت حول ذلك، فالاقتصاد العالمي مرّ خلال السنوات الأخيرة بصدمات متتالية بدءًا بكورونا والإغلاقات ثم حرب روسيا وأوكرانيا، ثم الحرب الأخيرة، فصار الاقتصاد العالمي يعرج ولا يركض، كما هو مطلوب للعودة للتعافي، كما قال بيير أوليفيه جورينشا كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي.

إن ما يعبر عن كل ما سبق تصريح رئيس البنك الدولي أجاي بانغا في مقابلة مع رويترز عن أسفه لتوقيت الحرب، لأنه: (في الوقت الذي بدأت البنوك المركزية تشعر بمزيد من الثقة في أن هناك فرصة لهبوط سلس لأسعار الفائدة، فإن الصراع جعل الأمور أكثر صعوبة)، وفي رأيه أنها: (مأساة إنسانية وصدمة اقتصادية لا نحتاجها)، ويرى أن: (المنظمات الدولية تثق في وقف تصعيد الصراع بما يؤدّي إلى تجنب المزيد من الألم، وعدم إضافة المزيد من الأسئلة إلى مسار التعافي الاقتصادي).

كبح المكاسب

هنا يمكننا القول؛ إن التوترات الجيوسياسية هي الخطر الحقيقي على الاقتصاد الدولي وتعافيه، بدأ الإنتاج العالمي في التعافي، ولكن ببطء، حيث نما بنسبة 3% العام الحالي، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 2.9 % العام القادم طبقًا لتوقعات المحللين، كما تشير التقديرات إلى أن منطقة اليورو ستحقق نموًا قدره 0.7 % العام الحالي، لتنخفض هذه النسبة إلى 1.2 % العام المقبل.

وهي نسب أقل مما قدره صندوق النقد الدولي، كما أن هناك مخاوف من أن يكون لحرب غزة دور في كبح المكاسب التي تحققت بشق الأنفس على جبهتي النمو والتضخم. إن إحدى أدوات هذا الكبح أسعار النفط والغاز، ففي أول رد فعل على حرب غزة أمرت إسرائيل شركة شيفرون بوقف إنتاج الغاز في حقل تمار للغاز، وهو ما يكبدها شهريًا 200 مليون دولار، وهذا يلقي بتداعياته على واردات الغاز على الصعيد الدولي.

جرى التركيز على التداعيات على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تدفّقت الأرقام من إسرائيل بسرعة، في حين أنّ التداعيات كانت مدمّرة على الاقتصاد الفلسطينيّ، وهو ما يصعب حصره في ظل الدمار الشامل الذي لحق بقطاع غزة، والحصار المطبق على الضفة الغربية، لكن القلق على الصعيد الدولي أعمق من هذا أيضًا بكثير، إذ أثار الاصطفاف الغربي خلف إسرائيل قلق الدول ذات الاقتصادات الصاعدة، هذا القلق محل تساؤل: ماذا لو حدث خلاف مع الغرب في قضايا جذرية، هل سنتعرض للعقوبات والمحاصرة؟ هل يمتد الأمر إلى استخدام القوة بلا رحمة وتدمير الاقتصاد؟

وهل ستصبح عمليات تدمير المدن والمصانع – حالة روسيا في أوكرانيا، وتدمير غزة تدميرًا ساحقًا- نموذجًا لحروب المستقبل التي تدمر كل شيء بلا هوادة من أجل تحقيق انتصار؟.

قوة الهند

اللافت للنظر أن الهند لديها قوة اقتصادية كبرى، لكنها تراقب من كثب الموقف، بل ذهب عدد من المراكز البحثية المحلية إلى مزيد من الطرح حول تداعيات الخلافات المحتملة مع الغرب على الاقتصاد الهندي.

وكذلك الحال مع الصين التي أعدَّت عدة سيناريوهات للأزمات المحتملة وأثرها على الاقتصاد الصيني، لكن ما هو أبعد من ذلك صارت هناك تساؤلات حول الصناعات العسكرية الإسرائيلية ومدى القدرة على الاعتماد على السلاح الإسرائيلي؟

وهو ما قد يؤثر على المدى البعيد على قدرة إسرائيل على استكمال برامج تطوير الأسلحة، وتصدير السلاح المصنّع في إسرائيل، في ظل صعود صناعات منافسة في العديد من الدول ومنها تركيا وإيران، ليقودنا هذا للتساؤل: هل إسرائيل بيئة آمنة للاستثمارات في ظل الحروب المتتالية لها مع محيطها الجغرافي؟

على عكس كل الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل، حرب غزة الأخيرة تخوضها إسرائيل في وضع اقتصادي مضطرب وفي ظل سوء إدارة، وسوء توزيع للموارد حتى في ظل الحرب، حتى اضطر 300 من خبراء الاقتصاد الإسرائيليين إلى توجيه رسالة إلى بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش عنوانها: (العودة إلى رشدكما)، مطالبين بإحداث تغيير جوهري في الأولويات الوطنية وإعادة توجيه الأموال بشكل كبير للتعامل مع أضرار الحرب ومساعدة الضحايا وإعادة تأهيل الاقتصاد.

وتوقعوا ارتفاع النفقات في زمن الحرب إلى مليارات الدولارات، وحثوا نتنياهو وسموتريتش على التعليق الفوري لتمويل أي أنشطة ليست حاسمة لجهود الحرب وإعادة تأهيل الاقتصاد، مع وقف صرف الأموال المخصصة لاتفاقيات شركاء ائتلاف نتنياهو لحكم إسرائيل من المتطرفين.

خفّض البنك المركزي الإسرائيلي توقعاته لنمو الاقتصاد خلال عام 2024، مفترضًا أن الحرب لن يطول أمدها وتأثيرها أكثر مما هي عليه الآن، كما خصّص 30 مليار دولار لدعم الشيكل العملة الإسرائيلية.

دخلت إسرائيل الحرب باحتياطيّ نقدي 200 مليار دولار، وهو معرض للنزيف الآن، انخفض الناتج المحلي لإسرائيل 15 %، وهي أعلى نسبة في تاريخ إسرائيل، إن الأزمة التي سيواجُهها الاقتصاد الإسرائيلي هي العمالة، ففي خلال حرب غزة فرّ 7 آلاف عامل تايلندي من إسرائيل، كما فقدت إسرائيل العمالة الفلسطينية القادمة من غزة بصورة أساسية، هذا ما يدمر قطاعات عديدة في الاقتصاد الإسرائيلي، مثل: الزراعة والصناعة، فضلًا عن القطاع السياحي الذي امتدت آثاره إلى الدول المجاورة.

فقدان فرص النمو

إن الحديث عن آثار الحرب الجارية على الاقتصاد الإسرائيلي دار حول الآثار المباشرة الآنية، لكن الآثار على المدى المتوسط وكذلك البعيد غير واضحة، فالاقتصاديون يرون آثارًا عميقة قد لا يتعافى منها الاقتصاد الإسرائيلي بسهولة، هذا ما يجعل تكلفة الحرب عالية، وهي ردّ فعل على طول مدة الحرب والعنف الذي مُورس خلالها، ثم فقدان الفرص التي أتاحتها سياسات تطبيع الدول العربية مع إسرائيل.

فالاقتصاد الطبيعي يقوم على الجوار والاستفادة منه إلى أقصي حد ممكن، لكن قطع العلاقات مع الجوار يفقد أي اقتصاد فرصًا طبيعية للنمو والتفاعل، لقد خسر الاقتصاد الإسرائيلي بعنفه المفرط في غزة فرصة التطبيع الاقتصادي مع الجوار؛ بسبب العداء مع شعوب المنطقة، وهي المستهلك والمنتج.

ولنا في ذلك الرفض الشعبي المصري أيَّ منتج اقتصادي إسرائيلي، كما أن الخوف من نشوب حروب متتالية في إسرائيل ومع الجوار يجعل استقرار الاقتصاد الإسرائيلي مستحيلًا.

على الجانب الآخر، نرى أن الحديث عن الاقتصاد الفلسطيني لا محل له من الإعراب، فقد دُمرت كل مقومات الحياة في غزة، ولحقت أضرار بالغة بموسم حصاد الزيتون في الضفة الغربية، كما أن السياحة في أعياد الميلاد يبدو أنها أصبحت في مهب الريح سواء بالنسبة للضفة الغربية وإسرائيل على حد سواء.

اقتصاد مستقل

إن أكثر ما يعبر عن مشهد التدمير هو عودة الفلسطينيين إلى استخدام الحطب لإنضاج الخبز، أو استخدام مياه البحر المالحة في الشرب أو غير ذلك، فقد سُوي الاقتصاد الغزي بالأرض، فأصبحت غزة بلا اقتصاد، لتصبح مهمة إعمارها في مرحلة ما بعد الحرب مهمة شاقة.

لذا فإن العديد من دعوات إعادة إعمار غزة تعتمد على الدعم الخليجي، خاصة من قطر والكويت، لذا فالسؤال المطروح: هل ستكون هناك خطط شاملة لإعادة الإعمار تفكّ الاشتباك بل وتفكّ اعتماد الاقتصاد الفلسطيني في غزة والضفة أيضًا على إسرائيل في كل شيء من الكهرباء إلى المياه إلى المواد الغذائية.. إلخ.

إن ما كشفته الحرب الأخيرة هو تحول هام في الشخصية الفلسطينية في كل الأجيال، حيث بات التمسك بالأرض أهم من كل مقومات الحياة، فهناك 2 مليون فلسطيني يعيشون تحت ظروف قاسية في حصار مطبق هدف إلى التهجير والإبادة، بل حين رفض بعضهم مغادرة منازلهم وفضلوا الموت بها، صارت قيمة الحياة توازي قيمة التمسك بالأرض، هذا الذي صدم الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين، فحسابات الصمود ليس لها علاقة بالحسابات الاقتصادية المادية الصرفة.

وبالتالي فإن العودة لبناء اقتصاد فلسطيني مستقل معتمد على ذاته هو الدرس الذي تعلمه الفلسطينيون، وهو ذات الدرس الذي استوعبوه من تجارب التاريخ المريرة بأن الاعتماد على الدول العربية في المناصرة والمساندة سيكون هادمًا للمقاومة وحرب التحرير.

كانت الحرب مفاجأة للجميع وتحمل الفلسطينيون ثمنها ومسؤوليتها، قاد الحصار على غزة منذ العام 2007 إلى ابتكارات وحلول لا حدود لها، الحصار ولد عقولًا فذة مبتكرة في كل المجالات، حتى صارت الحياة ممكنة تحت الضغوط الإسرائيلية، فأنت حين تنزع كل شيء من الإنسان تدفعه إلى اليأس والانتحار، أو يخرج عليك بروح جديدة خارج تصورك، هذا ما حدث.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



Source link

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *