TodayPic

مجلة اخبارية

اخبار عامة

النقد الأدبي الأكاديمي المصري لا يصدقه أحد | آراء


كثرت أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات المصرية على اختلاف ألوانها؛ “منها الحكومية والأهلية والخاصة”، وكثرت درجات “الدكتوراه”، وازدحمت أرفف مكتبات الجامعات بالرسائل العلمية “الموصى بنشرها وتبادلها مع الجامعات الأخرى”، وفي الوقت ذاته كثرت الروايات المنشورة ودور النشر والندوات والدعايات، ولكن لم يعد للنقد الأكاديمي جلاله، ولا مكانته القديمة التي كان يعبر عنها الدكتور طه حسين، والدكتور محمد مندور، والدكتور لويس عوض”، وغيرهم من خريجي جامعة “فؤاد الأول”، التي كانت الجامعة الوحيدة في مصر، وهي تطور طبيعي لعمل جماعي قام به رموز الطبقة الغنية في القرن العشرين، وكان من بين المتبرعين لبنائها الزعيم الوطني مصطفى كامل، والأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، وكان “طه حسين” أول طالب يحصل منها على “الدكتوراه”. والمفارقة المدهشة أن من منحوه الدرجة العلمية كانوا شيوخا “معممين” و”أفنديات مطربشين”، وليس بينهم دكتور واحد!

ومضت السنون، وتخرج الدارسون، وعاد المبتعثون من أسفارهم، وتشكلت “نخبة مبدعة” في الحرم الجامعي وفي صحف “حزب الوفد” وفي صحف حزب “الأحرار الدستوريون” برعاية “أحمد لطفي السيد” وغيره من النابهين والمثقفين الكبار، واستوى الأكاديميون على نار هادئة، واستولوا على الصحف وكتبوا ونشروا وهدموا وأنشؤوا، وأصبح “طه حسين” عميدا للأدب والنقد، وحارب من أجل نشر الجامعات في ربوع مصر، وانتشرت الجامعات.

وقبل تولي كمال الدين حسين عسكرة الجامعة في فترة 23 يوليو/تموز، خرج رافضو استمرار الضباط الأحرار في حكم مصر “خلال الأزمة المشهورة باسم أزمة الديمقراطية مارس/آذار 1954″، الذي بلغ عددهم نحو 150 شخصا من “أساتذة ومدرسين مساعدين”، وسيطرت أجهزة الأمن على الجامعات؛ فأصبح “أمن الدولة” يحكم الجامعة عن طريق اختيار القيادات المرنة الموالية للنظام، ومن خلال “طاقم المخبرين” الذي تغلغل في الجامعات وسط جموع الطلاب، وهذا الطاقم كان يضم الطلبة الفقراء والمحتاجين والراغبين في اللحاق بهيئة التدريس، فكان “الضابط” المكلف برصد حركة الطلبة في الجامعة هو من يرشح “المعيدين” من بين “طاقم جمع المعلومات” أو “المخبرين” الذين اختارهم بعناية منذ الساعات الأولى لدخولهم الحرم الجامعي، وأسكنهم “المدينة الجامعية” على سبيل “الرشوة”.

الغطاء البيروقراطي

ولم تكن “الموافقة الأمنية” التي تكتمل بها “مسوغات التعيين” سوى الغطاء البيروقراطي الذي يمر منه هؤلاء المخبرون ليصبحوا أساتذة في الجامعة، وظل هذا الوضع طوال سنوات حكم محمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، أي أن كل الذين تولوا مناصب جامعية أو حصلوا على درجة “الدكتوراه” كانوا من أبناء جهاز “أمن الدولة”، ولما ظهرت حركة “9 مارس” التي كانت ضمن الحركات المعارضة لوجود “الحرس الجامعي” داخل الحرم الجامعي وحصلت على حكم قضائي بطرده خارج الحرم الجامعي -في عصر مبارك- لم تستطع تحقيق حلمها الكبير “استقلال الجامعة”. وفي ظل هذا الوضع، انفرد “النقد الأدبي الأكاديمي” بميزة العمل داخل “الدولاب الرسمي للثقافة” أو “وزارة الثقافة” التي ظهرت في التشكيل الوزاري للمرة الأولى عام 1957، تحت مسمي “وزارة الثقافة والإرشاد القومي”.

ومع تولي “ثروت عكاشة ” منصب وزير الثقافة بعد فصلها عن “الإرشاد القومي”، زاد الاعتماد على أساتذة الجامعة في كل إدارات الوزارة، خاصة المجلات المتخصصة، وأصبح العرف السائد في مجتمع المثقفين والمبدعين أن “رأي الدكتور فلان” في القصة أو الرواية أو القصيدة هو “خاتم النسر وجواز المرور” الرسمي إلى جنة الإبداع، وكانت منح “تفرغ المبدعين” أداة أخرى لجذب المبدعين إلى “حديقة وزارة الثقافة” التي أصبحت في عهد الوزير “المباركي” فاروق حسني “حظيرة”، بنص تصريح له منشور ومتداول منذ سنوات.

ومع تشكيل لجان “المجلس الأعلى للثقافة”، انخرط “الدكاترة الأكاديميون” في هذه اللجان، وكونوا طبقة تمنح وتمنع وتجيز وترفض وترفع وتخفض؛ تمنح حق نشر الكتب، وتمنع الحصول على الجائزة، وترفع كاتبا من “الأقاليم” إلى “العاصمة”، وتمنحه مشروعية تمثيل “مصر” في الوفود الثقافية التي تزور العواصم العربية والعالمية وتشارك في المهرجانات والأسابيع الثقافية خارج البلاد. وكان زعيم هذه الطبقة الراحل جابر عصفور، وكان الأكاديميون في أقسام اللغة العربية يعدونه الأب الروحي، والقائد والقابض على مفاتيح “لجنة ترقيات” المدرسين والأساتذة المساعدين في أقسام اللغة العربية في الجامعات المصرية.

مات عصفور وبقيت العصافير

ومات “عصفور” وبقيت عشرات العصافير تغرد وتواصل أداء المهمة غير النبيلة في دواوين وزارة الثقافة ولجان المجلس الأعلى للثقافة ومدرجات الدراسة في الجامعات، ونشأ “سوق البحث العلمي المأجور”، وهو سوق فيه تباع “البحوث العلمية” وشهادات الماجستير والدكتوراه، حسب القول المصري “كله بتمنه”.

ولن نتناول قصة محاكمة نصر أبو زيد لأنها مستهلكة، لكن الصراع فيها كان مغطى بغطاء البحث العلمي، وتغيرت الأحوال -بعد 25 يناير/كانون الأول- وانكشف المستور في أقسام اللغة العربية، وعرف الناس أن السادة الذين يحملون الدرجات الجامعية لا تشغلهم الحركة الثقافية ولا يشغلهم تقييم المنتج الأدبي، بقدر ما يشغلهم التقدم إلى الجوائز، والمشاركة في لجان التحكيم بقصد الحصول على المال، وتبين للمبدعين الجادين حجم الفساد في أقسام اللغة العربية، ومن المضحكات المبكيات عناوين الرسائل التي يحصل بها “المحظوظون” على درجات الماجستير والدكتوراه، بعضها لا يصلح للبحث، وبعضها ناطق بالضحالة والفساد. على سبيل المثال، تجد عنوانا من نوعية “الحب والكراهية في تجربة الروائي فتح الله القوصي”، و”الوجبات الشعبية في قصص زيد الطعمجي”.

ضاع “النقد” ولم يعد “الدكتور” مهتما بما يجري حوله، ولا عارفا تطورات المشهد الإبداعي، ولا قادرا على الفرز وتقديم الرؤية التي تفيد المبدع والمتلقي. وكالعادة، بقي عدد قليل من الباحثين المجتهدين يحاول بذل مجهود يحفظ ماء الوجه، ولكن هذا العدد القليل لا يمكنه منح النقد الأدبي الأكاديمي الثقة التي فقدها، ولا الوجاهة التي ضاعت منه على أيدي “المفسدين الكبار”، وأصبح مألوفا لدى المبدعين في مصر قيام المبدعين بعملية “النقد التبادلي”؛ أي أن يتبادل المبدعون كتابة النقد.. فلان الروائي يكتب عن صديقه والعكس صحيح، “والنهاردة عندك، وبكره عندي”، حتى “الندوات” التي تنظمها جماعات ثقافية في القاهرة أو تنظمها وزارة الثقافة يتولاها شعراء وقاصون وروائيون، وخفت صوت “الناقد الدكتور” وضعف أثره أو انتهى، كما قال الشاعر العربي “لكل شيء إذا ما تم نقصان”، وقد اكتمل مشهد الفساد النقدي الأكاديمي فكان حتما نقصان قدر المحسوبين عليه والمشتغلين به، وهوانهم على الناس بعد أن هانت عليهم أنفسهم، وارتضوا إهدار الكرامة من أجل المال والشهرة!



Source link

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *